يتساءل بعض المؤرخون ان كان يمكن الانطلاق من مذكرات فرد من 'رجال الماضي' لإعادة بناء تصور أشمل لهذا الماضي؟ وان كان ممكنا عبر تاريخ وسيرة رجل من الماضي بلورة فكرة واقعية عن الصراعات الإيديولوجية والسياسية التي كانت سائدة في هذا الماضي؟ ويشير المؤرخ الفرنسي بول فاين ان الاختيار النسبي للمؤرخ هو دائما ليس إلا اختيارا بين تاريخ يعلمنا أكثر (التاريخ البيوغرافي) ولكنه يشرح أقل، وتاريخ يشرح أكثر ويعلمنا أقل (التاريخ العام) لأن ما نكتسبه من جهة نخسره من جهة أخرى، حيث إن التاريخ 'البيوغرافي' و'الحدثي' هو الأقل شرحا ولكنه الأغنى بالمعلومات لأنه يعالج الأفراد ضمن خصوصياتهم ويوضح لكل منهم تفاصيل شخصياتهم والتفاف نواياهم ومراحل تفكيرهم بينما تصبح المعلومات أكثر 'تبسيطية' عندما نخطو الى تاريخ أشمل واوسع.
وعلى هذا الأساس نعرض اليوم في هذا المقال احداثا معينة من مسيرة الصحفي اليافاوي عيسى العيسى (1872ـ 1950) الذي أسس جريدة "فلسطين" في يافا في عام 1911، حيث وردت في مذكراته فقرة مثيرة حول دور الصهاينة في محاربة القضية الفلسطينية منذ قبل الحرب العالمية الأولى، مما يوضح كيف تشير أحداث الماضي في كثير من الأحيان إلى استمرار الماضي الذي لا يزال حاضرا، كما انه يبرز لنا كيف ان حدثا بيوغرافيا قد يبدو حدثا هامشيا يعلمنا اكثر في بعض الاحيان من التاريخ الشامل لانه غني بالتفاصيل.
لقد روى صحفي العيسى ما كان يحدث في يافا قبل الحرب العالمية الأولى قائلا:
((حاول اليهود بكل ما في وسعهم، وبكلّ وسيلة لهم أن يستميلوا الجريدة (فلسطين) إليهم أو أن يجعلوها تخفّف من حدّتها على الأقل، فلم يدعوا طريقة من طرق الإغراء إلّا استعملوها وطرقهم لذلك كثيرة وأهمّها المال والجمال، ولكنّ جميع تلك الوسائل أخفقت فلم يروا بدلاً من إقامة القضايا عليَّ، بحجّة التّفرّقة بين العناصر مثلاً أو الذّم والتّحقير أو غير ذلك مما كانوا يروا فيه سبباً لإقامة الدّعاوى، فكان يُحكمُ عليَّ حيناً بالجزاء النقدي وأحياناً بتعطيل الجريدة عدّة أيّام ولكنّي كنت أعود بعد ذلك إلى أشدّ ممّا كنت عليه.
وكان أن جاء مرة زائراً إلى فلسطين "المستر مورغانتو" (1856ـ 1946) الذي كان سفير أميركا (في اسطنبول 1913ـ1916) آنذاك، فكانت شكوى اليهود من جريدة "فلسطين" عامّة وكلّهم يطالبون بلسانٍ واحدٍ تعطيلها.
ولم يكد "المستر مورغانتو" يعود إلى الأستانة حتّى استصدر أمراً من الصّدر الأعظم "كامل باشا" إلى مُتصرّف القدس بتعطيل جريدة "فلسطين" نهائياً. فاستدعاني المُتصرّف (ولا أذكر اسمه الآن ولعلّه ربما كان ‘ماجد بك’) وأطلعني على صورة البرقية فاحتججت قائلا: "كيف يجوز للصّدر الأعظم أو لغيره في عهد الدّستور (دستور 1908) أن يأمر بتعطيل جريدة عثمانية من غير مُحاكمة؟" إلّا أن احتجاجي كان عبثاً فاحتجّجت إلى الأستانة تلغرافيّاً فلم يُجدِ ذلك نفعاً، وأخيراً قرّرت الذّهاب إلى مصر (بعد اغلاق الجريدة) والعمل هُناك لعلَ في ذلك ما يُفيد. وكان قد أصبح ابن عمّي في مصر آنذاك (وهبي العيسى) مُحاميّاً في المحكمة المُختلطة ونزلت ضيفاً عليه وثاني يوم وصولي قابلت صديقي "راشيل صيقلي" الذي كان حينئذٍ رئيس تحرير جريدة "جورنال دي كير" الفرنسية، فقد قصصت عليه حكاية تعطيل الجريدة واتّفقت معه على أن يخصص الصّفحة الأولى من جريدته "الجورنال دي كير" للحديث معي عن القضيّة الصهيونيّة، وهكذا كان، فكانت الصّفحة الأولى من الجورنال في اليوم التالي مصدّرة بصورتي، وتحتها حديثي وقد استغرق الصفحة بكاملها. ثم أخذت أنشر بعض المقالات في الصحف العربية ولا سيما رداً على ما كانت تنشره صحيفة "المقطم" من الرسائل التي تردُ من الأستانة بقلم "صهيوني كبير"، لم أتمكن من معرفته.
وبعد أن نشرت لي جريدة "المقطم" بعض الردود التي قد جعلتها سلسلة ردودً على كل رسالة على حدى لذلك "الصهيوني الكبير"، وإذ به يقوم رئيس تحرير المقطم "خليل ثابت"، والذي كان أحد أساتذتي في الكلية الأميركية ببيروت بقفل باب النشر أمامي، وعبثاً حاولت أن أثنيه عن عزمه، فذهبت إلى "الأهرام" التي اعتذرت أيضا عن النشر، ثم أخذت مع صديقي"راشيل" نزور كل الجرائد الأخرى لتفتح لنا باباً للنشر، ومن بين تلك الجرائد "اللواء" و"المؤيد"، فكان أصحابها أو رؤساء تحريرها يعتذرون بقولهم: "أن المسألة الصهيونية لا تهم مصر ولا المصريين وأنهم يرحبون فقط بكل ما له علاقة بمصر".
فلما ضقت ذرعاً، عمدت إلى جريدة مُعطلة بسبب ضيق يد صاحبها "الشيخ محمد الٌقلقيلي"، (واسمها "الكواكب" على ما أذكر) فاشتريت لها الورق اللازم واتفقت مع مطبعة لطبعها وأخذت أوزعها مجاناً مع الباعة وقد نشرت فيها ما رفضت "المقطم " و"المؤيد" و"اللواء" نشره.
وفي ذات يوم جاءني إلى مكتبي ابن عمي ووفد من طلاب الأزهر وشيوخه وعلى رأسهم "الحاج أمين الحسيني"، الذي كان طالباً فيه وأظهروا لي إعجابهم بجهادي بالدفاع عن فلسطين وما نالني من اضطهاد وخسائر بسبب ذلك..
كان من تأثير تلك الضجة التي أثرتها في مصر، أن جاءتني برقية من يوسف ابن عمي في يافا بطلب رجوعي إلى يافا بعد صدور الأمر بإعادة فتح الجريدة فعدتُ وعادت الجريدة إلى سابق عادتها.
وهنا لا بُد لي من الإشارة إلى ما كان لموقف "المقطم" معي وإقفاله الباب دون نشر ردودي على سلسلة مقالات ذلك "الصهيوني الكبير". فقد قال لي صديق، وهو صاحب "مكتبة المؤيد" أنه بينما كان راكباً يوماً في "الترامواي"، سمع أحدهم يقول للآخر: ‘أتعرف أن "المقطم" قد أقفل باب النشر عن المسألة الصهيونية؟’
فقال له الآخر: "نعم قرأت ذلك".
فقال الأول، الذي كان يُدعى "نسيم ملول" وهو الآن "الدكتور نسيم ملول" من موظفي الوكالة الصهيونية في القدس: "إن ذلك كان لقاء 500 اشتراك عرضتها عليهم.. وكان ملول هذا في ذلك الوقت مراسل "المقطم" في فلسطين، وقد ارسلته الوكالة الصهيونية، إلى مصر لمتابعتي.))
ولم تطل فترة اعادة اصدار جريدة "فلسطين" بعد عودة عيسى العيسى إلى يافا حيث استمرت الدعوات القضائية ضد الجريدة حتى اغلاقها لعدة سنوات بعد ان أعلنت تركيا دخولها رسميا في الحرب إلى جانب المانيا في منتصف عام 1914، وقد تم نفي عدد كبير من الفلسطينيين الذين لم يساندوا الدولة العثمانية في الحرب، وقد اعيد فتح الجريدة فقط في شهر آذار 1921 بعد عودة الصحفي العيسى إلى يافا.
ان هذا المقتطف المختصر من مذكرات العيسى يبين كيف ان الولايات المتحدة (عبر سفيرها مورغنتو) كانت منذ اكثر من قرن تتدخل بشؤون المنطقة وتستجيب لمطالب الصهاينة، كما انها كانت تتعاون مع قوى إقليمية أخرى (الامبراطورية العثمانية في مرحلة انهيارها) وتحرضها ضد الصحافة الفلسطينية لانتقادها للحركة الصهيونية والتي كانت من جهتها ايضا تحرض الصحفيين في مصر ضد نشر المواقف الفلسطينية التي تناهض الافكار الصهيونية، عبر اوركسترا متزامنة بين كل الاطراف.
كان ذلك كله قبل اعلان "وعد بلفور" وقبل اكثر من قرن مما يؤكد على اقوال المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد "إن إحدى الاستراتيجيات الأكثر رواجا تكمن في محاولة تفسير الحاضر عبر الإشارة إلى الماضي، ليس فقط لأننا قد نكون على اختلاف مع الماضي ومع ما حدث ولكن لأننا نتساءل إن كان الماضي قد مضى ومات ودفن، أو أنه لا يزال مستمرا ربما بشكل آخر: هذه من خصوصيات الحوارات المتعددة حول الأسباب والأحكام والاتهامات، وحول الحاضر والمستقبل".